فصل: قال الفخر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.فوائد لغوية وإعرابية:

قال السمين:
{فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (147)}.
قوله: {فِي جَنَّاتٍ}: بدلٌ مِنْ {في ما هاهنا} بإعادةِ العاملِ؛ فَصَّل بعدما أَجْمَلَ كما في الآيةِ قبلَها. و{ما} موصولةٌ، وظرفُ المكان صلتُها.
{وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ (148)}.
قوله: {وَنَخْلٍ}: يجوزُ أَنْ يكونَ من بابِ ذِكْرِ الخاص بعد العامِّ؛ لأنَّ الجناتِ تشمَل النخلَ، ويجوزَ أَنْ يكونَ تكريرًا للشيءِ الواحدِ بلفظٍ آخَرَ، فإنَّهم يُطْلِقُوْن الجنةَ ولا يريدونَ إلاَّ النخلَ. قال زهير:
كأنَّ عَيْنَيَّ في غَرْبَيْ مُقَتَّلةٍ ** من النَّواضِحِ تَسْقِي جَنَّةً سُحُقا

وسُحُقًا: جمعُ سَحُوْق ولا يُوْصَفُ به إلاَّ النخلُ والطَّلْعُ الكفرى، وهو عُنقودُ التَّمْرِ قبل خروجهِ من الكُمِّ. قال الزمخشري: الطَّلْعَةُ: هي التي تَطْلُع من النخلةِ كنَصْلِ السيفِ، في جَوْفه شماريخُ القِنْو. والقِنْو هو اسمٌ للخارج من الجِذْعِ كما هو بعُرْجُوْنِه. والهَضِيْمُ: اللطيفُ، مِنْ قولهم: كَشْحٌ هضيمٌ. وقيل المتراكِبُ.
{وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ (149)}.
قوله: {وَتَنْحِتُونَ} العامَّةُ على الخطابِ وكسرِ الحاءِ. والحسنُ وعيسى وأبو حيوة بفتحها، وعن الحسن أيضًا {تَنْحاتون} بألفٍ للإِشباعِ، وعنه وعن أبي حيوة {يَنْحِتُون} بالياء مِنْ تحتُ. وقد تَقَدَّم ذلك كلُّه في الأعراف.
قوله: {فَارِهِينَ} قرأ الكوفيون وابنُ عامر {فارِهيْنَ} بالألف كما قرؤوا {حاذِرون} بها والباقونَ {فَرِهين} بدون ألف، كما قرؤوا {حَذِرُون} بدونِها. والفَراهَةُ: النشاطُ والقوةُ. وقيل: الحِذْقُ. يقال: دابَّة فارِهٌ، ولا يقال: فارِهَة، وقد فَرُه يَفْرُه فَراهة.
{قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (155)}.
قوله: {لَّهَا شِرْبٌ}: صفةٌ ل {ناقَةٌ}. ويجوزُ أَنْ يكونَ الوصفُ وحدَه الجارَّ والمجرورَ و{شِرْبٌ} فاعلٌ به لاعتمادِه. وقرأ ابن أبي عبلة {شُرْبٌ} بالضمِّ فيهما. والشِّرْبُ: بالكسرِ النصيبُ كالسِّقْيِ، وبالضمِّ المصدرُ. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

قال في ملاك التأويل:
قوله تعالى في قصة صالح، عليه السلام: {مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} (الشعراء: 154)، وفي قصة شعيب، عليه السلام: {وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ} (الشعراء: 186)، يسأل عن زيادة الواو العاطفة هنا ولم تثبت في قصة صالح؟
والجواب عنه- والله أعلم- أن ذلك لرعي المناسبة، بيان ذلك ما ثبت قبل الآية الثانية من قوله تعالى حكاية لما عد شعيب في أمره قومه وذكر من مرتكباتهم في قوله: {أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ} (الشعراء: 181- 184)، فهذه خمس معطوفات من مأمور به ومنهي عنه، طابقها العطف في حوابهم من قوله تعالى حكاية عنهم: {قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ} (الشعراء: 185- 186)، فهذه مناسبة واضحة، ولما تقدم في قصة صالح، عليه السلام، قوله: {أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ} (الشعراء: 146- 152)، فلم يقع في هذه القصة من المعطوفات أمرًا أو نهيًا سوى قوله: {وَأَطِيعُونِ وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ} (الشعراء: 150- 151)، فناسب ذلك ورود جوابهم في دعوى المماثلة في الشرية بغير حرف النسق فقالوا: {وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا} بخلاف الآية الثانية، وجاء كل على ما يجب ويناسب، ولا يناسب عكس الوارد، والله أعلم. اهـ.

.تفسير الآيات (160- 175):

قوله تعالى: {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (160) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ (161) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (162) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (163) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (164) أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ (165) وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ (166) قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (167) قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ (168) رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ (169) فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (170) إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ (171) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (172) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (173) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (174) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (175)}.

.من أقوال المفسرين:

.قال البقاعي:

{كَذَّبَتْ} أي دأب من تقدم كأنهم تواصوا به {قوم لوط المرسلين} لأن من كذب رسولًا- كما مضى- فقد كذب الكل، لتساوي المعجزات في الدلالة على الصدق.
وقد صرحت هذه الآية بكفرهم بالتكذيب.
وبين إسراعهم في الضلال بقوله: {إذ} أي حين {قال لهم أخوهم} أي في السكنى في البلد لا في النسب لأنه ابن أخي إبراهيم عليه السلام، وهما من بلاد الشرق من بلاد بابل- وكأنه عبر بالأخوة لاختياره لمجاورتهم، ومناسبتهم بمصاهرتهم، وإقامته بينهم في مدينتهم مدة مديدة، وسنين عديدة، وإتيانه بالأولاد من نسائهم، مع موافقته لهم في أنه قروي، ثم بينه بقوله: {لوط ألا تتقون} أي تخافون الله فتجعلوا بينكم وبين سخطه وقاية.
ولما كان مضمون هذا الدعاء لهم والإنكار عليهم في عدم التقوى علل ذلك بقوله: {إني لكم} أي خاصة {رسول أمين} أي لا شيء من غش ولا خيانة عندي، ولذلك سبب عنه قوله: {فاتقوا الله} أي لقدرته على إهلاك من يريد وتعاليه في عظمته {وأطيعون} أي لأن طاعتي سبب نجاتكم، لأني لا آمركم إلا بما يرتضيه.
ولا أنهاكم إلا عما يغضبه.
ولما أثبت الداعي إلى طاعته، نفى الناهي عنها فقال: {وما أسئلكم عليه} أي الدعاء إلى الله {من أجر} أي فتتهموني بسببه؛ ونفى سؤاله لغيرهم من الخلائق بتخصيصه بالخالق فقال: {إن} أي ما {أجري إلا على رب العالمين} أي المحسن إليهم بإيجادهم ثم تربيتهم.
فلما وجدوا المقتضى لاتباعه وانتفى المانع، أنكر عليهم ما يوجب عذابهم من إيثارهم شهوة الفرج المخرج لهم إلى ما صاروا به سبة في الخلق فقال موبخًا مقرعًا بيانًا لتفاحش فعلهم وعظمه: {أتأتون} أي إتيان المعصية {الذكران} ولعلهم كانوا يفعلون بالذكور من غير الآدميين توغلًا في الشر وتجاهرًا بالتهتك لقوله: {من العالمين} أي كلهم، أو يكون المعنى: من بين الخلائق، أي أنكم اختصصتم بإتيان الذكران، لم يفعل هذا الفعل غيركم من الناكحين من الخلق {وتذرون} أي تتركون لهذا الغرض {ما خلق لكم} أي النكاح {ربكم} المحسن إليكم {من أزواجكم} أي وهن الإناث، على أن {من} للبيان، ويجوز أن تكون مبعضة، ويكون المخلوق كذلك هو القبل.
ولما كانوا كأنهم قالوا: نحن لم نترك أزواجنا، حملًا لقوله على الترك أصلًا ورأسًا وإن كانوا قد فهموا أن مراده تركهن حال الفعل في الذكور، قال مضربًا عن مقالهم هذا المعلوم تقديره لما أرادوه به، حيدة عن الحق، وتماديًا في الفجور: {بل أنتم قوم عادون} أي تركتم الأزواج بتعدي الفعل بهن وتجاوزه إلى الفعل بالذكران، وليس ذلك ببدع من أمركم، فإن العدوان- الذي هو مجاوزة الحد في الشر- وصف لكم أنتم عريقون فيه، فلذلك لا تقفون عند حد حده الله تعالى.
فلما اتضح الحق، وعرف المراد، وكان غريبًا عندهم، وتشوف السامع إلى جوابهم، استؤنف الإخبار عنه، فقيل إعلامًا بانقطاعهم وأنهم عارفون أنه لا وجه لهم في ذلك أصلًا لعدولهم إلى الفحش: {قالوا} مقسمين: {لئن لم تنته} وسموه باسمه جفاء وغلظة فقالوا: {يا لوط} عن مثل إنكارك هذا علينا.
ولما كان لما له من العظمة بالنبوة والأفعال الشريفة التي توجب إجلاله وإنكار كل من يسمعهم أن يخرج مثله، زادوا في التأكيد فقالوا: {لتكونن من المخرجين} أي ممن أخرجناه من بلدنا على وجه فظيع تصير مشهورًا به بينهم.
إشارة إلى أنه غريب عندهم، وأن عادتهم المستمرة نفي من اعترض عليهم، وكان قصدهم بذلك أن يكونوا هم المتولين لإخراجه إهانة له للاستراحة منه، فكان إخراجه، لكن إخراج إكرام للاستراحة منهم والنجاة من عذابهم بتولي الملائكة الكرام {قال} أي جوابًا لهم: {إني} مؤكدًا لمضمون ما يأتي به {لعملكم} ولم يقل: قال بل زاد في التأكيد بقوله: {من القالين} أي المشهورين ببغض هذا العمل الفاحش، العريقين في هذا الوصف، المذكورين بين الناس بمنابذة من يفعله، لا يردني عن إنكاره تهديدكم لي بإخراج ولا غيره، والقلاء: بغض شديد كأنه يقلي الفؤاد.
ولما بادأهم بمثل هذا الذي من شأنه الإفضاء إلى الشر، أقبل على من يفعل ذلك لأجله، وهو القادر على كل شيء العالم بكل شيء، فقال: {رب نجني وأهلي مما} أي من الجزاء الذي يلحقهم لما {يعملون}.
ولما قبل سبحانه وتعالى دعاءه، أشار إلى ذلك بقوله: {فنجيناه وأهله} مما عذبناهم به بإخراجنا له من بلدهم حين ستخفافهم له، ولم يؤخره عنهم إلى حين خروجه إلا لأجله، وعين سبحانه المراد مبينًا أن أهله كثير بقوله: {أجمعين} أي أهل بيته والمتبعين له على دينه {إلا عجوزًا} وهي امرأته، كائنة {في} حكم {الغابرين} أي الماكثين الذي تلحقهم الغبرة بما يكون من الداهية فإننا لن ننجها لقضائنا بذلك في الأزل، لكونها لم تتابعه في الدين، وكان هواها مع قومها.
ولما ذكر نجاته المفهمة لهلاكهم، صرح به على وجه هوله بأداة التراخي لما علم غير مرة أنه كان عقب خروجه، لم يتخلل بينهما مهلة فقال: {ثم دمرنا} أي أهلكنا هلاكًا بغتة صلبًا أصمّ في غاية النكد، وما أحسن التعبير عنهم بلفظ {الآخرين} لإفهام تأخرهم من كل وجه.
ولما كان معنى {دمرنا}: حكمنا بتدميرهم، عطف عليه قوله: {وأمطرنا} ودل على العذاب بتعديته ب على فقال: {عليهم مطرًا} أي وأي مطر، ولذلك سبب عنه قوله: {فساء مطر المنذرين} أي ما أسوأ مطر الذين خوفهم لوط عليه السلام بما أشار إليه إنكاره وتعبيره بالتقوى والعدوان.
ولما كان في جري المكذبين والمصدقين على نظام واحد من الهلاك والنجاة أعظم عبرة وأكبر موعظة، أشار إلى ذلك بقوله: {إن في ذلك لآية} أي دلالة عظيمة على صدق الرسل في جميع ترغيبهم وترهيبهم وتبشيرهم وتحذيرهم.
ولما كان من أتى بعد هذه الأمم كقريش ومن تقدمهم قد علموا أخبارهم، وضموا إلى بعض الأخبار نظر الديار، والتوسم في الآثار قال معجبًا من حالهم في ضلالهم: {وما} أي والحال أنه ما {كان أكثرهم مؤمنين}.
ولما كان في ذلك إشارة إلى الإنذار بمثل ما حل بهم من الدمار، أتبعه التصريح بالتخويف والإطماع فقال: {وإن ربك لهو} أي وحده {العزيز} أي في بطشه بأعدائه {الرحيم} في لطفه بأوليائه، ورفقه بأعدائه بإرسال الرسل، وبيان كل مشكل. اهـ.

.قال الفخر:

{كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (160)}.
القصة السادسة: قصة لوط عليه السلام:
أما قوله تعالى: {أَتَأْتُونَ الذكران مِنَ العالمين} فيحتمل عوده إلى الآتي: أي أنتم من جملة العالمين صرتم مخصوصين بهذه الصفة، وهي إتيان الذكران، ويحتمل عوده إلى المأتي، أي أنتم اخترتم الذكران من العالمين لا الإناث منهم.
وأما قوله تعالى: {مّنْ أزواجكم} فيصلح أن يكون تبيينًا لما خلق وأن يكون للتبعيض، ويراد بما خلق العضو المباح منهن، وكأنهم كانوا يفعلون مثل ذلك بنسائهم، والعادي هو المتعدي في ظلمه، ومعناه أترتكبون هذه المعصية على عظمها بل أنتم قوم عادون في جميع المعاصي فهذا من جملة ذاك، أو بل أنتم قوم أحقاء بأن توصفوا بالعدوان حيث ارتكبتم مثل هذه الفاحشة، فقالوا له عليه السلام: {لَئِن لَّمْ تَنتَهِ يالوط لَتَكُونَنَّ مِنَ المخرجين} أي لتكونن من جملة من أخرجناه من بلدنا، ولعلهم كانوا يخرجون من أخرجوه على أسوإ الأحوال، فقال لهم لوط عليه السلام: {إِنّى لِعَمَلِكُمْ مّنَ القالين} القلي البغض الشديد، كأنه بغض يقلي الفؤاد والكبد، وقوله: {مّنَ القالين} أبلغ من أن يقول إني لعملكم قال، كما يقال فلان من العلماء فهو أبلغ من قولك فلان عالم، ويجوز أن يراد من الكاملين في قلاكم، ثم قال تعالى: {فنجيناه وَأَهْلَهُ} والمراد: فنجيناه وأهله من عقوبة عملهم {إِلاَّ عَجُوزًا في الغابرين} فإن قيل: {فِى الغابرين} صفة لها كأنه قيل إلا عجوزًا غابرة، ولم يكن الغبور صفتها وقت تنجيتهم جوابه: معناه إلا عجوزًا مقدرًا غبورها، قيل إنها هلكت مع من خرج من القرية بما أمطر عليهم من الحجارة، قال القاضي عبد الجبار في تفسيره في قوله تعالى: {وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مّنْ أزواجكم} دلالة على بطلان الجبر من جهات أحدها: أنه لا يقال تذرون إلا مع القدرة على خلافه، ولذلك لا يقال للمرء لم تذر الصعود إلى السماء، كما يقال له لم تذر الدخول والخروج وثانيها: أنه قال: {مَا خَلَقَ لَكُمْ} ولو كان خلق الفعل لله تعالى لكان الذي خلق لهم ما خلقه فيهم وأوجبه لا ما لم يفعلوه وثالثها: قوله تعالى: {بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ} فإن كان تعالى خلق فيهم ما كانوا يعملون فكيف ينسبون إلى أنهم تعدوا، وهل يقال للأسود إنك متعد في لونك؟ فنقول حاصل هذه الوجوه يرجع إلى أن العبد لو لم يكن موجدًا الأفعال نفسه لما توجه المدح والذم والأمر والنهي عليه، ولهذه الآية في هذا المعنى خاصية أزيد مما ورد من الأمر والنهي والمدح والذم في قصة موسى عليه السلام وإبراهيم ونوح وسائر القصص، فكيف خص هذه القصة بهذه الوجوه دون سائر القصص، وإذا ثبت بطلان هذه الوجوه بقي ذلك الوجه المشهور فنحن نجيب عنها بالجوابين المشهورين الأول: أن الله تعالى لما علم وقوع هذه الأشياء فعدمها محال لأن عدمها يستلزم انقلاب العلم جهلًا وهو محال والمفضي إلى المحال محال، وإذا كان عدمها محالًا كان التكليف بالترك تكليفًا بالمحال الثاني: أن القادر لما كان قادرًا على الضدين امتنع أن يترجح أحد المقدورين على الآخر إلا لمرجح وهو الداعي أو الإرادة وذلك المرجح محدث فله مؤثر وذلك المؤثر إن كان هو العبد لزم التسلسل وهو محال وإن كان هو الله تعالى فذلك هو الجبر على قولك، فثبت بهذين البرهانين القاطعين سقوط ما قاله، والله أعلم. اهـ.